0 مبدعٌ رغمَ العجزِ


أتناء وجودي بمدينة الصويرة في صيف 2011 برفقة صديق، تجولنا معا بين أسوار المدينة القديمة، إلى أن بلغنا طريقا تصطف عدة مقاهٍ على جانبيه، ويعرف نوعا من الاكتظاظ بفعل حركة الرائحين والغادين، كما أنه يتصل بإحدى الساحات المعروفة في المدينة. استأذنني صديقي أن يذهب لقضاء حاجة، ففضلت أن أنتظره قرب إحدى تلك المقاهي إلى أن يعود. الْتفتّ شمالا فلمحت شابا يبعدُ عني ببضعة أمتار، كان هزيل الجسم، يجلس فوق كرسيّ متحرك تتصل به لوحة على شكل طاولة يضع عليها أغراضه، وفوقه مظلة تنشر ظلها، لتقيه أشعة شمس الظهيرة. كان الشاب لا يتحرك منه غير رأس مستقر على جسد رقيق، ونادرا ما كان يمد يده الثقيلة بحركة بطيئة جدا وبصعوبة قصوى. ومع ذلك كان منهمكا في عمله، تبدو على ملامحه الجدية وروح الإتقان، قد يذهب الناظر إلى أن يبلغ درجة الغبطة!... أي نعم قد يغبطه على ما هو عليه من السكينة، والرضى، والثقة، فهي أمور قد يفتقدها بعض الناس، وليست هذه الأشياء تُكتسب بالقوة والجاه والسلطان... 
 كنت من مكاني أراقبه خلسة، وهو يمسك بفمه فرشاةً صغيرة، ثم يلطخها بألوان مختارة، ثم يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال، وتارة إلى أعلى وأخرى إلى أسفل واللوحة أمامه مستسلمة تفتح له بياضها بكل محبة وعشف نابع. يكرر العملية مرارا دون أن يهتم بمحيطه الخارجي، فهو يحلق بعيدا على بساط خياله وفي نشوة لا يعلمها إلا هو، لأنه هو الوحيد من يحسّها ويتذوقها، هو من يعيش تلك الحالة. أما أنا فلم أكن أملك إلا أن أطرح الأفكار وأسجل في ذاكرتي تفاصيل حركاته بنظراتي الفضولية...
مضى من الزمن ربع ساعة وكنت على نفس الوضع إلى أن يمّمت نحوه، فاقتربت قليلا حتى أنظر ماذا كان يرسم، وبما كان يوحي إليه خياله... وما تلك الحالة التي تتصف بالاتحاد التي كان يحياها.. اتحاده بالفرشاة، وحلوله في بياض اللوحة اندماجا. وكي لا أظهِر فضولي توقفت خلفه على بعد مترين تقريبا، فلبثتُ كذلك إلى أن أقبل عليّ صديقي، ثم اتجهت إلى الشاب ووقفت أمامه هذه المرة، وألقيت التحية عليه، فاتضح أنه يتكلم بصعوبة، أخذت من أمامه صورة على شكل "كارت بوستال" كان هو من رسمها، وعرضها للبيع. سألته عن ثمنها، فأخبرني وكلماته لا تكاد تُبين. ثم دفعت له وانصرفت وصديقي...

بعد ذلك علمت أن اسمه مصطفى، وأن الإعاقة لم تمنعه من مزاولة الرسم، كما أن لوحاته يقتنيها السياح الأجانب، إضافة إلى شعبيته في مدينة الصويرة، ومحبة الجميع له، وشهرته عند الأجانب الذين زاروا ويزورون نفس المكان.

قلت في نفسي: هذا الإنسان يستطيع أن يبحث عن ايجابياته، وقدراته التي تمكنه من الإنتاج والابداع، دون أن يعيش عالة على أحد، ما دامت روحه تسكن جسده فبإمكانه أن يتحدى المعيقات، كل شيء ممكن، ومن قال لا أستطيع فهو ميت.


رشيد أمديون

الصورة في أعلى هي اللوحة التي اشتريتها منه

0 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق

لا بأس أن تخالفني الرأي بأسلوب هادئ، فكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.

 
Free Web Hosting