موضوع اليوم هو عبارة عن نقل لتعليق قمت بالمشاركة به في موضوع الأخت "أم هريرة" صاحبة مدونة المدينة الفاضلة، فقد كان لموضوعها المعنون تحت اسم "معجزة الحديد في القرآن الكريم"، أثر في نفسي مما جعلني أعلق عليه بما جاء في خاطري ساعتها، وبكل صراحة لم أفكر في أن أجعل لهذا التعليق تدوينة خاصة إلا بعدما اقترحت علي الأخت صاحبة الموضوع أن أقوم بذلك، وطبعا لقد قمت بتغيير بعض الأمور وتعديل أشياء وإضافة أخرى، حتى تكون التدوينة في المستوى المطلوب إن شاء الله.
وأرجو منكم أن لا تعتبروا هذا الموضوع تفسيرا ولا تطفلا على التفسير، لأنه فقط خواطر أتتني وأنا أتأمل الآية الكريمة.
النظرية العلمية والحقيقة العلمية
موضوع الإعجاز العلمي في القرآن موضوع حساس وكبير، ويكمن وجه الحساسية فيه من الناحية الدينية، ومن ناحية قداسة القرآن ككتاب رباني جاء لهداية البشر أولا ولم يأت ليكون كتاب فيزياء أو طبيعيات أو رياضيات وغيرها من العلوم، وهذا بنص القرآن (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (1)، وأرى أن أغلب ما جاء فيه من حقائق علمية صحيحة، لم تأت إلا كأمثلة وتبيان وتحد للعقول التي قد تلحد وتجحد في آيات الله: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(2)
ومعلوم أنه لا يصح أبدا أن أية نظرية جاء بها الغرب نبحث لها عن سند قرآني، وهذا في رأي أغلب العلماء منكر، لا يجوز فعله، ذلك أن القرآن كنص مقدس لا يجب أن نربطه إلا بالحقائق العلمية الثابتة صحتها ثبوتا قطعيا بدون شك ولا ريب، لأن النظرية إن ثبت خطؤها بعد زمن من الأزمان بحكم تقدم العلم، سيمس ذلك من قداسة القرآن وسيترك مجالا للمشككين أن يجدوا ثغرة ينفذوا منها لتشكيك في صحة النص المقدس، رغم أن إلحاق النظرية بالقرآن فعل بشري محض ولا يمثل وحيا مقدسا.
خلاصة الكلام أن النظرية العلمية لا يجب إلحاقها بآيات القرآن ولا أن نبحث لها عن سند فيه، أما الحقيقة العلمية فذلك شيء أخر.
نظرات وتأملات
دلائل قدرة الله تعالى لا حصر لها ولا يحويها بكمها الهائل عقل بشر، فرغم كل التقدم العلمي يبقى الإنسان جاهلا لكثير من الأسرار، وقد تكون أحيانا بسيطة جدا، ويقف العلم حائرا أمام تفسيرها تفسيرا علميا مقنعا، ولهذا كان تحدي القرآن ولا يزال وسيزال في قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)(3).
فهل استطاع العلماء مثلا أن يفسروا ماهية الروح؟ وغيرها من الأمور التي تحدث في رحم المرأة، أوما له علاقة بعلم الأجنة، وأشياء أخرى تعترض سبيل العلم تبقى كلها علامات استفهام.. !!!
الروعة في القرآن أنه يخاطب كل العقليات رغم تنوعها واختلافها، ففهم العابد والناسك لآياته ليس هو فهم عالم الذرة، وعالم الفلك...وفهم القاضي المفتي ليس هو فهم الآخرين وهكذا..
عندما قرأت الآية القرآنية في المدينة الفاضلة وشاهدت شريط الفيديو، وسمعت الآية مرة أخرى وكأني لم أسمعها قط، وهذا في حد ذاته عنصر من الإعجاز القرآني أنه كتاب لا "يخلق" يعني لا يبلى بكثرة تكراره وكلما قرأته أو سمعته وأرسلت النظر بعيدا في آياته ومتأملا معانيه إلا وبانت لك أشياء أخرى لم تخطر ببالك من قبل.
يقول الله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (4)
الميزان هنا - والله أعلم- ليس هو آلة الوزن التي نزن بها، قد يكون هو العدل، لماذا نفهم الميزان هنا بأنه العدل؟
لأنه جاء بعد" الكتاب" والذي هو معنى شامل لكل ما أوحى الله به لرسله من الكتب المنزلة و الشرائع التي اتبعتها الأمم السابقة والتي نتبعها نحن إلى قيام الساعة، ثم إن كلمة ميزان جاء بعدها "ليقوم الناس بالقسط" يعني ليعدلوا، والقسط هو العدل والقاسط هو الجائر الظالم، ضد المقسط الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى بمعنى العدل، ثم بحركة العطف التي هي الواو قال تعالى "وأنزلنا الحديد.." وقد وضح الفلم الوثائقي مسألة النزول وعلاقتها بالحديد وأنه مادة سماوية يعني من الكواكب الأخرى وليست مادة أرضية.
ثم نأتي إلى قول الله تعالى: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب...)، هل هناك علاقة بين بداية الآية ووسطها ونهايتها؟ خاصة وأن الله قال في النهاية ورسله بالغيب!!
قد سخر الله تعالى الحديد للإنسان لكي يستعمله في التصنيع والبناء والحروب وغيرها من المجالات التي تنفع الناس، سُخّر إذن من أجل متطلبات الدنيا، وذلك لتعمير الأرض، وهذا كله من أجل تحقيق معنى العبودية لله تعالى وإقامة العدل في الأرض، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (5). هذه هي وظيفة الإنسان على الأرض، نصرة الله وإعلاء كلمة التوحيد وعبادته، بإتخاذ الأسباب التي هي التعمير وامتلاك القوة.
وكلمة الغيب على ما فهمت لم تأتِ بمعنى الغيب المعروف كالإيمان بالملائكة والدار الأخيرة والغيبيات التي جاءنا بها الوحي القطعي للإيمان بها، ولكن الغيب -والله أعلم - هو المستقبل، لأن ما لم يحدث بعد غيبٌ بالنسبة لنا، وليس غيبا لمن سيدركه، كما كنا نحن غيبا لمن قبلنا. (ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب): الأزمنة والأجيال التي ستأتي مستقبلا والتي لا نعلم عنها شيئا.
وجاءت كلمة "رسله" بصيغة الجمع ذلك لأن الكلام يشمل الإنسان بصفة عامة منذ أن أوجده الله على الأرض، فاستعمال كلمة الناس يؤكد ذلك، وخاصة و أن المعنى يضم جميع الأقوام والأمم التي بعث فيها الرسل، منذ عهد آدم إلى قيام الساعة، لهذا جاءت رسله بالجمع.
الحديد وسيلة فيها منافع لتحقيق نصرة الله والرسل، وإقامة الحق والعدل وإعلاء كلمة الله، ومواجهة الباطل، وهي وسيلة شديدة البأس إن لم توجه في خدمة الخير، وخطيرة إن وجهت لخدمة الباطل. وما فهمته بفهمي القاصر، وكأن الآية تقول: هاهو الحديد سنرى كيف ستستغلوه وكيف سيستغله العباد حتى تقوم الساعة، أفي نصرة الله أم في نصرة نفوسكم وأهوائكم وكراسيكم.
في نهاية الآية الكريمة (إن الله قوي عزيز)، قد يُطرح سؤال لماذا خُتمت الآية بذكر قوة الله وعزته؟
لا بد أن يكون هناك ارتباط وثيق بين "إن الله قوي عزيز" وبين بداية والآية ونهايتها...القوة والعزة لله تعالى فلو مثلا تخلى العباد عن نصرة الله! فهو تعالى غني عنهم وغني عن مخلوقاته فهو القوي العزيز.
واقع مرير
للأسف الذين ملكوا الحديد ومنافعه التي نستفيد منها نحن المسلمون والعرب بصفة عامة قبل الغرب، هم أنفسهم من يملكون بأسه، فالحروب التي خاضها العالم قد دمرت الشعوب من أجل لاشيء، وكلنا يعلم قنبلة هيروشيما و نكزاكي، والإبادات الجماعية فقط لنزعة عرقية أو طمعا في أرض.
وبقينا نحن لا نستطيع حتى أن نقوم بصنع ثقب إبرة هذا إن استطعنا صناعة الإبرة أصلا. إن ما خلفته الحروب من أضرار، يؤكد بأس الحديد الشديد على الإنسان، لأن هذا لم يرافقه عدل وقسط، ومادام الأمر كذلك فالبأس شديد وقوي، وسيبقى مادام التصنيع والاختراع بأيدي من لا يضعون للأمور ميزانا عادلا مرفقا بالإحسان، مهما كثرت الدعاوي المؤيدة للحقوق وغيرها... وما دمنا نحن تقودنا قوافل التخلف إلى الخلف، ومصيرنا باق بأيدي من ملكوا القوة والنفوذ.
لهذا فإننا لم ننصر الله ورسله بالغيب، لقد نصرهما الذين نزلت في عصرهم هذه الآية، وجاهدوا بما توفر لديهم من حديد وآليات ففتحوا بها أقطار الأرض وهزموا إمبراطوريات كبيرة كانت رمز التقدم وقتها. ولا أجد غير هذه العبارة التي قالها ابن تيمية أن أقولها هنا:" الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"، نعم! المعيار الذي يجب أن ننظر إليه هو العدل لأنه أساس كل شيء، لهذا أكد عليه الإسلام أشد التأكيد.
أجيالنا لم تنصر الله بالغيب! بل نصرت نفوسها وانتصرت لأهوائها وشهواتها، ضعفنا حين تخلينا عن رسالتنا التي حمّلها الله لنا وهي إقامة العدل والقسط والميزان.
هذا ليس إحباطا للعزائم، فالمستقبل آتٍ وهو من الغيب، وربما يأتي الله بمن ينصره ويملأ الأرض عدلا ويقيم الميزان، ويقوم بما لم نقم به نحن والذين من قبلنا، ولذاك الحين لا يجب أن نجلس جلوس المنتظر للقادم، فهذا عيب من عيوبنا التي لم نتخلّ عنها لهذه الساعة! و العمل يجب أن يكون بأن أنطلق من ذاتي وأقيم العدل بيني وبين نفسي أولا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(6)، ثم أنظر إلى الأمام، وإلى مجتمعي.
(1) الإسراء-9- / (2) الكهف -54- / (3) الإسراء -85- / (4) الحديد -25- / (5) الحج -41- / (6) الرعد -11-
إرسال تعليق
لا بأس أن تخالفني الرأي بأسلوب هادئ، فكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.