18 رباعيات المجذوب (الجزء الخامس)


مازلنا نريد أن نقف عند حكمة الرجال، وننبش في أقوالهم المأثورة ننفض الغبار عن حكم شقت ظلمة الأزمان لتصل إلينا قولا شفهيا قبل أن يدون... تتوارث الأجيال كل جميل من القول، لأن السلف كانوا يقدّرون قيمة الحكمة في حياتهم، يتناولونها في سياق حديثهم، مثالا كانت أو قولة رجل شهد عصرا من العصور. طبعا لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، وهو سيد الحكماء، وقد أوتي جوامع الكلم، وأوتي القرآن والحكمة التي تعتبر عند أهل التفسير هي السنة. و"الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها".
سبق أن تابعنا أقوال الزاهد المغربي عبد الرحمان (الرحمن) المجذوب.. وشخصيته غنية عن التعريف عند المغاربة وخاصة المهتمين بالزجل والملحون. وقد شهدنا بعض رباعياته الحكيمة، عرضتها عليكم سابقا محاولا تبسيط العبارات بالفصحى، بحكم أن الكلام بالعامية المغربية. وفي هذا الموضوع أحاول أن أتابع ما بدأت، وسأضع في الأسفل روابط الأجزاء السابقة لمن أراد الاطلاع عليها.

غدر الزمان.

كثيرة هي الأمثال التي ذكر فيها الزمان وتقلباته.. ودوام الحال من المحال، ومهما عل مقام الإنسان قد يأتي عليه زمن يصير إلى أسفل.. وقد قال الشاعر الأندلسي ، أبو البقاء الرندي في رثائيته:

هي الأيام كما شاهدتها دولٌ      من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ 
                                وهذه الدار لا تبقي على أحد      ولا يدوم على حال لها شانُ 
 يقول المجذوب:


 يَا ذَا الزْمَانْ يَا اَلغَـدّارْ     يَا كَاسَرْني مَنْ ذْرَاعِي
                                         طَيَّحتْ مَنْ كَان سُلْطَانْ    وْ رَكّبتْ مَنْ كَانْ رَاعِي

في تعبير مجازي ينسب –المجذوب- للزمان صفة الغدر، وقال أنه كسره من ذراعه كناية عن سطوة الزمان التي تبدل الأحوال، كما سلف الذكر.
ثم يضيف في البيت الثاني تشبيها جميلا بحيث وصف حال من كان له سلطان ورفعة ومقام كالراكب على فرس، ثم سقط، ليركب من كان ضعيف الحال عوضه، فشبهه بالراعي. وهذه هي أحوال الدنيا صعود وهبوط.
طيّحت: (بتشديد الياء) بمعنى أسقطتَ.
ركبت: بتشديد الكاف) بمعنى أَركبتَ.

الأخذ بالمظاهر

إن هذا الحكيم تناول جميع مظاهر المجتمع، مرة بالنقد، وتارة بتوجيه النصائح أو الوعظ أو التنبيه..
وأكثر ما كرهه هو احتقار ضعيف الحال، والحكم على الناس من خلال اللباس والمظاهر. وفيما أذكره من القصص الشفاهية المتداولة في الثقافة الشعبية، أن عبد الرحمان المجذوب أراد يوما أن يحضر وليمة عند أحد الأغنياء، فمنعه الخادم من الدخول بحجة ثيابه الرثة وحالته التي لا تليق لمجالسة القوم. عاد المجذوب بعد أن غير الملابس، وأصلح هندامه، فاستقبله الخادم بحفاوة، فلما جلسوا للطعام، تناول كم جلبابه وشرع يرمي داخله بلقيمات الأكل، وهو ينادي بالعبارة الدارجة: "كُلْ يَا كُمِّي كُلْ". وهو كان يقصد أن الدعوة للوليمة لم تكن له كشخص بل كانت لهندامه ولثوبه. وقد قال:
شَافُونِي اكْحَلْ مغَلَّف يحسْبُوا مَا فيّا ذْخِيرَة
و أنا كالكتاب المْؤَلّف فِيهْ منافَعْ كْثِيرة
يقصد أنهم رأوه أسودا غليظ الطبع فحسبوه غير متفطن وبلا ذخيرة من علم ولا حكمة، فوصف نفسه أنه كالكتاب الذي جمعت فيه الفوائد والمنافع الكثيرة، رغم عدم توافق ظاهره بباطنه.

يقول المجذوب:

                                           الشَّاشِيَّة تَطيعْ الرَاسْ       اَلْوَجهْ تضَوّيهْ الْحَسَانَــــة 
                                           الْمًكْسِي يَقْعُدْ مْعَ النّاسْ     اَلعَرْيَانْ نَوّضُوه مًنْ حْدَانَا

وفي رواية أخرى: "الشاشية تغطي الراس"
الشاشية هنا يقصد بها الرزة أو العمامة.
تطيع الراس: أي تلائمه.
الوجه تضويه الحسانة: يعني أنّ تحسين اللحية ومظهرها، أو حلقها، لما هو متداول الآن في اللهجة الشعبية المغربية. ولكن المعنى الأول الذي هو تحسين اللحية هو الأقرب لأن في زمنه لم يكن حلق اللحية قد صار عادة.
المعنى: أن الوجه يصير مضيئا حين الاعتناء به.
المكسي: يعني الذي عليه لباس، وهو ضد العريان، والمقصود هو المعنى الأعم، الغني أو صاحب الجاه والنسب.
نوضوه من حدانا: أي أن العريان (مجازا) يرغمونه على عدم الجلوس معهم احتقارا لمسكنته وفقره.

الأجزاء السابقة: - الجزء الأول  - الجزء: الثاني   - الجزء الثالث  - الجزء الرابع


مصدر الأبيات: كتاب القول المأثور
 من كلام سيدي عبد الحمن المجذوب
مكتبة الوحدة العربية
رشيد (أبو حسام الدين) 19 من أكتوبر 2011

18 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق

لا بأس أن تخالفني الرأي بأسلوب هادئ، فكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.

 
Free Web Hosting