توطئة
مضى زمن يقترب من العامين لم أدوّن شيئا عن مدن المغرب، ولاعن تراثه وثقافاته..، ولم يكن الأمر راجعًا بالتحديد إلى افتقاد مادة وموضوع للتناول، فالمدن، والإرث المغربي غزير كمًا، ومختف نوعا وشكلا. غير أنه بدا لي من مكان قريب أن الأمر راجع –ربما- إلى عدم الاكتراث بمسألة التراث سواءً من أبناء هذا الوطن، أو من خارجه. بل أحيانا تجد من المدونين العرب من يهتم بقراءة تراث المغرب أكثر من المغاربة أنفسهم. هذا بالإضافة إلى أن ظروف التدوين التي تؤثر فيها الأحداث السياسية تجعل الاهتمام أقل، إن لم أقل منعدما، وهذا ما أراه، وقد أكون مخطئا.
ما سأتناوله اليوم في هذه "التدوينة"، يجوز أن يكون مألوفا لدى المغاربة الذين يسكنون مناطق الجنوب. فبالنسبة لهؤلاء، الموضوع لا يضيف لهم جديدًا. فأهل الجنوب أدرى بشعبه، وأعلم بآثاره. لكني سأتناول الأمر كنوع من التعريف والتوضيح، لعل بذلك تحدث الفائدة لمن لا ينتمي لمنطقة جنوب المغرب أو الذين لا ينتمون إلى المغرب كذلك، وهم شغفون بمعرفة خبايا هذا البلد.
بيد أني أرغب في الإشارة إلى أمر هام؛ آلا وهو: أن كتابتي عن الأمازيغ من حين لآخر لا يعطي الأمر بعدًا إيديولوجيا؛ فالأمازيغية أكبر من أن توضع في قالب إيديولوجيّ ضيق الأفق ينفر الناس أكثر مما يحببهم في هذا التاريخ العتيق، وهي (أي الأمازيغية) أكبرُ من أن تُساق كوسيلة لمحاربة أختها العربية بدافع سياسي أو عرقي. وكثيرا ما كنت ألاحظ علامة الاستنكار في عيون بعض من أحدثهم عن الأمازيغ أو تاريخهم. ولست أعلم لم، لكن ربما لأنهم يخلطون الأمور. فذهبت بفهمي إلى أن القضية ألقِـيَ بها في ماء عكر، ويصعب على البعض أن يكون (بين بين). وليس هذا مكانا للحديث عن هذا الأمر فالحديث فيه، ذو شجون. ولكن في المقابل الآخر -وحتى نكون منصفين- العربية كلغة، أكبر من أن تختصر في مفهوم واحد، ولا يجوز أن يركبها راكب ليمارس بها العداوة ضد لغة وتراث وثقافة، معتبرا أن "ما دُون العربية هو وهم، وأن الأصل هو هذه اللغة لأنها المقدسة لكونها لغة العبادة، وهي الخالدة، ولا خلود لغيرها، وأي دعوة لإحياء لغة أو ثقافة شعب في بلده هو إعلان حرب على العربية" (نظرية المؤامرة اللعينة). لهذا أقول أن الحياة تسع الكل، وتسع كل الثقافات واللّغات في حضن وطن واحد، فالحياة أرحب من نظرتنا الضيقة، ومن تأويلاتنا الخاطئة، ومن إيديولوجياتنا الهادمة. فمن أحب خدمة لغة معينة فليُبرز مواطن الجمال فيها ثقافة وأدبا وتراثا، لا مواطن الحقد والعداوة والطغيان والتسلط، وادعاء الانتساب. وأعود أؤكدُ: أن تناولي للتراث الأمازيغي من حين إلى آخر، هو تناول على سجيته، لا تلفه الإيديولوجية التي قد يتوهمها بعض المنتسبين إلى الاتجاهين معا (ولا هم يحزنون).
ابتكار أمازيغيّ
ولا يمكن الولوج إلى الحصن إلا من الباب المخصص للدخول. ويُتخذ له حارسا أو حراسًا يدفعون لهم أجر خدمتهم، أو تكون الحراسة بالتناوب بين أسر القبيلة على طول السنة، وهذا يكون بالتطوع بدون مقابل، لأنه في المصلحة العامة.
الحصن المنيع
لا يتوقف دور هذه المخازن على احتواء القوت والأشياء الثمينة فحسب، بل كان في القرون السالفة بمثابة مقر للاحتماء من الهجمات الحربية. يختبئ فيه السكان إلى أن تضع الحرب أوزارها. كما أن حرّاس المخازن يزاولون مهمة حراسة القرية والحقول من كل الجهات عبر منافذ مخصصة لذلك، إذ غالبا ما يكون البناء على قمة عالية ويطل على جهات القرية وثغراتها، مع العلم أنه لا يتم تشيده وسط القرية، بل خارجها، وهذا ينم عن فطنة وذكاء، حيث أن الحصن الذي يحمي كل مدخرات أسر القبيلة لا يصح أن يكون في مكان يسهل الوصول إليه، لهذا كان الصعود إلى هذه المخازن يحتاج وقتا ومجهودا وقوة.
إڭودار
هذه المنشآت التي شهد لها تاريخ الأمازيغ بأهميتها ودورها الأساسي في حياة الناس، مازالت بعض القبائل تستخدمها ليومنا هذا، وإن كانت قليلة مقارنة بالقبائل التي أهملتها بعد أن فقدت دورها في عصر الحضارة والتقدم، وأدى هذا الإهمال إلى خرابها وتساقطها إلا ما رُمّم منها وبقي كمعلمة تاريخية تشهد على حقب زمنية. هذه البنايات تسمى بالأمازيغية إڭودار ومفرده (أڭادير) ، ويطلق عليها بالعربية: المخازن الجماعية. وتختلف طريقة البناء الهندسي من منطقة إلى أخرى، فهناك بعض إڭودار ذات تصميم معقد، إذ أن أماكنها الداخلية صعبة الولوج ومخفيّة، حيث لن يعرفها إلا من له دراية بمسالك الحصن الداخلية، وكان ذلك مقصودا لحماية الممتلكات الجماعية من أي طارئ يحدث، أو أي هجوم عدواني متوقع خاصة في عهد كان الولاء للقبيلة والجماعة فحسب، ولا سلطة تحمي الناس إلا نظام القبيلة وكبارائها.
يبدو أننا أمام فكرة ابتكرها أمازيغ جنوب المغرب منذ قرون، حفاظا على أمنهم القومي، وتلبية لمتطلبات الحياة الجبلية وتأقلما مع الوضع السياسي السائد حينها. كما أنها مؤسسة اقتصادية تابعة لكل قبيلة (إن صحّ هذا التعبير العصري) تخضع لقوانين عرفية صارمة. فلم يغب عن أهل الجنوب الجانب التنظيمي أبدًا، بل سنوا تلك القوانين حتى تخدم مصلحة الجميع. وقد نرى أن هذه المخازن كانت تقوم مقام الأبناك الحالية، من جهة حماية الممتلكات المادية والغذائية والمحافظة عليها من الضياع أو السلب. فاستفادت قبائل الجنوب عبر العصور المختلفة من هذه الفكرة المبتدعة. ومن أشهر هذه القلاع "إڭودار أڭلوي"، في الأطلس الصغير الذي قيل أن عمره عشرة قرون (أنظر الفيديو أسفل).
والذي يثير الدهشة والإعجاب هو الكيفية التي تم بها التشييد والبناء، فقديما لم تكن هناك وسائل النقل ولا آلات ولا شاحنات، إضافة إلى أن البناء - كما سبق الذكر- يتم على قمة عالية، ومع هذا كان السابقون أهل عزيمة وصمود، حملوا الأحجار وركبوا المخاطر لتحقيق غاياتهم، فابتكروا ما يخدم مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وما إڭودار التي نجدها اليوم بناءً تقادم عهده، إلا شاهدٌ على ذلك.
إرسال تعليق
لا بأس أن تخالفني الرأي بأسلوب هادئ، فكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.