6 قراءة في أضمومة "تنوء بحلمهم"

الموضوع نشره لي موقع دارنا بريس
●  مقدمة
    إننا بصدد مجموعة قصصية للقاص المغربي حميد الراتي. إصدار جديد بعنوان "تنوء بحلمهم" من 79 صفحة، عن دار الوطن للصحافة والطبع والنشر. حجم الكتاب صغير، تتوسط غلافه صورة تشكيلية للفنان المغربي فؤاد العنيز. وكتب مقدمته القاص مصطفى الكليتي.

     مما لا شك فيه - لمن قرأ للقاص حميد الراتي - أن خياله واسع وشاسع وبعيد المدى، أسلوبه شاعري نابض بالحياة، تحادي حبكته السردية الواقع وتعانق روح شاعر منطلق في ملكوت الإبداع. وهذا ما ازداد تأكيده في إضمامته القصصية "تنوء بحلمهم" التي تناولت 17 قصة، محورها الرئيسي هو المعاناة، التي تعددت أشكال بروزها في نصوص المجموعة، فهي حينا اجتماعية وحينا ثقافية وأخرى اقتصادية.. فالقاص باح بكل شواغله الفكرية والشعورية من خلال هذه الإضمامة، هي بالنسبة له مساحة أتاحت مزيدا من الرحابة فأحسن فيها السرد بإبداع أدبي، مضمنا مشهوده اليومي من حركة الحياة ونبض الشارع والسوق والقرية... وما يعانيه المحيط الاجتماعي من التهميش القاهر، فمنحت هذه البيئة المحيطة بالكاتب هذا الفضاء المتسع لينطلق البوح بسجية صادقة، عاكسا صور الواقع التي لا تخفى على كل مواطن يعيش على تراب الوطن، ويرى منه الجانب القابع خلف العتمة. حميد الراتي أبدع في الوصف والتشكيل، وفي خلق عمل أدبي حي يميل إلى الواقعية، ولا يخلو من طابع الشاعرية الممتعة التي تضفي على السرد عذوبة نقية صافية بصفاء اللغة المتاحة من جواهر البيان. كما أنه أحسن توظيف العامية (الدارجة) في بعض أماكنها حين تلجأ شخصيات السرد إلى التعبير عن نفسها، بلهجة "غرباوية" نابعة من الوسط والبيئة، وهذا ما أطعم تلك القصص أكثر فبدت حية وشخصياتها المحورية أكثر واقعية وإن كانت من وحي خيال الكاتب.

●   قراءة
     سأحاول بنظرة لامحة إبراز بعض ما أومأت إليه هذه المجموعة القصصية من القضايا المتعلقة بالصيرورة المشتركة:
الهجرة السرية؛ هي حلم أغلب الشباب ولاسيما في فترة السنوات السابقة، بها بدأ أحد نصوص المجموعة، تحت عنوان "السراب"، وكأنها إشارة إلى أن وهم الهجرة ما كان إلا سرابا اضمحل وذهب ضحيته الكثيرون، ابتلعهم البحر وعاد من عاد منهم خائب الرجاء. وبما أن البطالة كانت من بين الأسباب التي دفعت وتدفع الشباب إلى خوض هذه التجربة القاتلة، على متن قوارب تحمل أكبر عدد ممكن من الركاب، بحثا عن عيش كريم وحلم قد يتحقق على ضفاف أخرى. لهذا لم يغب الأمر عن كاتبنا بحيث تناول مشكل البطالة ضمنيا سواء داخل القصة الأولى "السراب"، أو تصريحا في سياق نص آخر بعنوان: "سوف تشرق من جديد" حيت رحلة البحث عن العمل دون جدوى، ودون انقطاع الأمل.

جاءت قصة "احتراق" مختزلة لمأساة الفقر والعوز والحرمان، والاستغلال الجنسي للمرأة، وسقوط معاني الكرامة الإنسانية تحت أقدام من نالوا حظا من البحبوحة والرفاهية. رغم جهاد المعوزين والبؤساء من أجل تحقيق كرامتهم. نقرأ: « سأناضل من أجل حقك في الكرامة، نامي حبيبتي قريرة العين، فلن يضيع عرقك بعد الآن».

في نص أخر بعنوان "أبهة" يعرض الكاتب بالوصف واقعا لا يكاد يختلف وإن اختلفت البيئة والأشخاص. أولئك المخلوقات التي تتسم بالأبهة والأناقة والتظاهر بالصلاح والإصلاح، تلك الشخوص التي تظهر في مواسم الانتخابات، تستغل حاجة المعوزين وتعاسة الأشقياء المحرومين، تتخذ من الظهور جسورا تعبر عليها، ثم تختفي.

الوطن؛ اختزله حميد الراتي في مفهوم القرية، جسد الارتباط به في سياقات متعددة من السرد، مثل هموم القرية ومعاناتها، وهاجس الغربة والحنين إلى الحضن، كلها أمور كانت واضحة السمة على النصوص القصصية. في "خلف العتمة" نقرأ: « تدركين ضيق اللحظة وقلة الحيلة...
تدركين أن الدموع ليست جرما إن تركت للانسكاب حزنا على الوطن المتبخر».

والوطن عند الكاتب هو الملجأ والمَعاد في حال التعب، هو حضن الأم الرءوفة الرحيمة. تفاصيله تحيا في دواخلنا، مهما ابتعدنا نعود، يجبرنا وخز الاشتياق والحنين. نقرأ في "رائحة الوطن": « لثمت ترابه المسجى بحلة إسفلت ذائب، اشتممت هواءه المنعش من سقاية تتوسط الدوار الذي أصبح مدينة صغيرة في طور الانبعاث، غسلت ثوبي من أدران البلاد البعيدة، من أدخنة سجائرها، من سكْرها المائع وعريها الفاضح، تركت حقيبتي يحرسها الأمان، وكنت كمن يعدو باحثا عن مفقود..».

لم يغض الكاتب طرفه عن القضية الأم؛ فلسطين الجريحة. رغم كل الجراح المحلية وتلك المعاناة المحلقة كطيور الغربان على سماء منطقة الغرب بالمغرب، التي تحاول أن تنفض عنها رداء التعاسة، رغم هشاشة مجال الصحة (حينما تحترق الورود) والتعليم (رحلة الشتاء والصبح)، والأمية الطاغية (المشكاة)، والتهميش الذي صار سيد الموقف كله (خلف العتمة). رغم كل هذا فهاجس الارتباط بأرض المقدس حاضر في قصص حميد الراتي، كما هو حاضر في وجدانه الحسي والأدبي. نقرأ في "مشهد بالأحمر والأسود": « (...) فلتسامحنا أيها الحامل في وجه الأوباش حجرا، فقد بعناك عن سبق وعي وإصرار، وتركناك مسربلا بوداعتك نحن الذين استبحنا الخراب فيك، ومنحنا لجلادك تأشيرة الحياة بدل الموت».
أما في قصة "غضب ويقين" قال: « وقفَت هنيهة تتابع مطاردة جيش الاحتلال لأحد الفدائيين، وفي الضفة المجاورة امرأة تتشبث برضيعها وهم يحاولون انتزاعه من حضنها، تتوسل بكل هلعها، وترنو جهة الدرب لترى تقاذف الأحجار الغاضبة، ثم يخطف بصرها منظر فتى تخترقه الرصاصات الغادرات فيترنح معانقا دفء التراب ».

●  دلالة العنوان
    المجموعة القصصية حملت بين طياتها أحلاما وآمالا رغم الآلام الظاهرة، حلم العاطلين، حلم الأميين والبسطاء من الناس، حلم الفقراء والمعوزين حلم المواطن والعامل، حلم الفلسطيني.. كل هؤلاء لهم أحلام مختلفة تتعدد صورها لتعدد الظروف، بيد أن هناك خيط واصل بينها يجمعها(الصور)، فهي تتعاضد لتطرح لنا حلما موحدا ومشتركا بين الكل، هو الكرامة والعيش الكريم، والحياة الكريمة التي من حق أي إنسان خلقه الله على الأرض وكرمه. هذا هو ما تنوء به هذه المجموعة، ولعل العنوان لم يختره الكاتب اعتباطا فهو له دلالة قوية على ذلك، فإفراد الحلم وربطه بضمير الغائب "هم" يشير بقوة إلى أن ما قدمته –المجموعة القصصية- هو عامل مشترك بين أولئك الذين جاءت شخصياتهم وبيئاتهم ضمن أغلب قصصها، يحملون نفس الهاجس الذي تحمله المدينة بأرضيتها وجدران بيوتها وأسواقها ومحلاتها...
الأضمومة مثقلة بحلمهم تنهض لتبرزه حرفا جليا يُقرأ رغم ثقله، لكن جسارتها أقوى، علمتها الحياة - في شخص كاتبها- أن لا تستسلم، وأن الشمس سوف تشرق من جديد.

    بحق إن مجموعة "تنوء بحلمهم" تفتح الباب على مصراعيه لوصف واقع مر مثقل بالجراح بكل آلامه وكذا آماله، واقع يتعب وجدان كل مبدع فتح عينيه على محيط وبيئة فغدا يسرد وينقل الصورة كما هي دون تجميل ولا تزويق، صورة طبقا الأصل، بأسلوب أدبي فني، وبملكة شاعر يبدع التصوير ويسوق المجاز الغير مخل بنظام الحبكة والسرد.

أبو حسام الدين/ رشيد


6 التعليقات:

إظهار التعليقات

إرسال تعليق

لا بأس أن تخالفني الرأي بأسلوب هادئ، فكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.

 
Free Web Hosting